في السنوات الأخيرة، تحولت مصر إلى واحدة من أبرز نقاط الجذب في خريطة الطاقة العالمية. منذ الإعلان عن حقل “ظُهر” العملاق عام 2015، لم تتوقف الاكتشافات البترولية والغازية، سواء في مياه البحر المتوسط أو الصحراء الغربية أو خليج السويس، هذه الاكتشافات وضعت مصر في موقع جديد، موقع الدولة التي لا تكتفي بتلبية احتياجاتها من الطاقة، بل تسعى لتصبح مركزًا إقليميًا لتصدير الغاز والبترول إلى الأسواق العالمية.
لكن خلف العناوين البراقة والأرقام الضخمة، يظل السؤال حاضرًا.. كيف يمكن لهذه الثروة أن تعود بالنفع المباشر على المواطن المصري؟ وهل ستبقى مجرد إنجازات اقتصادية كبرى، أم ستتحول إلى مشاريع تنموية وخدمية ملموسة في حياة الناس؟
تشير بيانات وزارة البترول إلى أن إنتاج مصر من الغاز الطبيعي ارتفع إلى أكثر من 7 مليارات قدم مكعب يوميًا، وهو رقم يكفي لتغطية الاستهلاك المحلي بل وتوفير فائض للتصدير.
كما أن صادرات الغاز الطبيعي المسال ارتفعت لتضع مصر ضمن أكبر 10 دول مصدرة للغاز عالميًا، بفضل محطات الإسالة في إدكو ودمياط التي تعمل بكامل طاقتها.
وفي الوقت ذاته، جذب القطاع استثمارات أجنبية تجاوزت مليارات الدولارات سنويًا، حيث دخلت شركات عالمية كبرى مثل إيني الإيطالية، إكسون موبيل الأمريكية، وبي بي البريطانية بقوة في مشاريع التنقيب والإنتاج.
هذه الأرقام لا تعكس فقط زيادة في الإنتاج، بل تؤكد أن مصر أصبحت بيئة جاذبة للاستثمار في قطاع حساس ومعقد مثل الطاقة.
انعكاسات اقتصادية ملموسة
الاكتشافات البترولية ليست مجرد إنجاز تقني أو رقمي، بل تحمل تأثيرات واضحة على الاقتصاد الكلي،
تعزيز احتياطيات النقد الأجنبي من خلال عائدات تصدير الغاز، وهو ما يساعد في استقرار سعر العملة المحلية، وتقليص فاتورة الاستيراد من الوقود والغاز، التي كانت تستهلك مليارات الدولارات سنويًا.
بجانب زيادة مساهمة قطاع البترول في الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يرفع من قدرة الدولة على تمويل مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة، توفير آلاف فرص العمل المباشرة في عمليات التنقيب والإنتاج، وغير المباشرة في الصناعات والخدمات المرتبطة.
المواطن.. المستفيد الأول على المدى الطويل
قد لا يلمس المواطن البسيط هذه المكاسب في صورة انخفاض مباشر لأسعار الوقود، نظرًا لارتباطها بالأسعار العالمية، لكن الفوائد تظهر بشكل تدريجي في جوانب عدة:
الاستقرار في إمدادات الكهرباء، حيث يعتمد توليد أكثر من 60% من الطاقة الكهربائية على الغاز المحلي، ما أنهى أزمة انقطاع الكهرباء.
التوسع في توصيل الغاز الطبيعي للمنازل، حيث وصل المشروع القومي إلى ملايين الوحدات السكنية في مختلف المحافظات، مما خفف الأعباء عن الأسر.
تحسين مستوى الخدمات العامة بفضل زيادة موارد الدولة، ما يتيح تمويل قطاعات الصحة والتعليم والنقل.
فرص عمل جديدة للشباب في المشروعات البترولية، خاصة في المناطق الساحلية والصحراوية التي كانت تعاني من ضعف التنمية.
ولا يمكن النظر إلى الاكتشافات البترولية في مصر بمعزل عن السياق الإقليمي، فشرق المتوسط وشمال أفريقيا أصبحا ساحة مهمة لتأمين احتياجات العالم من الطاقة.
وهنا تبرز مقارنة سريعة:
إسرائيل وقبرص: حققتا خلال العقد الماضي اكتشافات مهمة مثل حقل ليفياثان وأفروديت، لكن غياب البنية التحتية لديهما جعل تصدير الغاز يعتمد بدرجة كبيرة على مصر، حيث تُستخدم محطات الإسالة المصرية كمخرج رئيسي لغازهما إلى أوروبا.
قطر: ما تزال أكبر مصدر عالمي للغاز الطبيعي المسال، لكن موقعها الجغرافي يجعلها بعيدة عن الأسواق الأوروبية مقارنة بمصر التي تمتلك ميزة القرب الجغرافي وقنوات لوجستية أقصر عبر البحر المتوسط.
الجزائر: تعتبر من كبار مصدري الغاز لأوروبا، خاصة لإسبانيا وإيطاليا، لكنها تواجه تحديات داخلية مرتبطة بزيادة الاستهلاك المحلي وتراجع الاستثمارات، وهو ما يعطي مصر فرصة أكبر لتعزيز حصتها في السوق الأوروبي.
ليبيا: تمتلك احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، لكن عدم الاستقرار السياسي والأمني قلل من قدرتها على استغلال هذه الثروات، الأمر الذي أتاح لمصر فرصة أن تكون بديلًا آمنًا ومستقرًا للمستوردين الأوروبيين.
ميزة مصر التنافسية
عبر هذه المقارنة يتضح أن مصر جمعت بين ثلاث مزايا نادرة، احتياطيات متزايدة بفضل الاكتشافات الجديدة،
بنية تحتية جاهزة من محطات إسالة وخطوط أنابيب،
استقرار سياسي وأمني نسبي مقارنة بدول مجاورة.
هذه العوامل تجعلها الخيار الأكثر موثوقية في شرق المتوسط لتلبية الطلب الأوروبي المتنامي على الغاز، خصوصًا بعد تراجع الاعتماد على روسيا.
الاكتشافات البترولية في مصر لم تعد مجرد أخبار متفرقة في نشرات الصحف، بل أصبحت مشروعًا وطنيًا متكاملًا يعزز الاقتصاد، ويوفر الطاقة، ويجذب الاستثمارات، ويخلق فرص عمل.
ومع المقارنة الإقليمية يتضح أن مصر أصبحت الأكثر جاهزية لتحويل اكتشافاتها إلى قوة اقتصادية مستدامة، بفضل بنيتها التحتية القوية وموقعها الجغرافي الفريد واستراتيجيتها طويلة الأجل.
إنها قصة بلد يحول ما في باطن الأرض إلى طاقة فوق الأرض، طاقة تدعم الاقتصاد وتفتح أبواب الأمل للمواطن.