لم تكن حرب أكتوبر 1973 مجرد معركة عسكرية لاسترداد الأرض، بل كانت أيضًا ملحمة اقتصادية مكتملة الأركان شاركت فيها البنوك المصرية بدور لا يقل بطولة عن الجنود في الميدان.
في الوقت الذي كان فيه الجيش يستعد للعبور، كانت مؤسسات الدولة المالية، وعلى رأسها البنوك المصرية تدير معركة أخرى خلف الكواليس،معركة التمويل، والتخطيط، والصمود المالي في وجه حصار اقتصادي خانق وتحديات جسيمة فرضها واقع ما بعد نكسة 1967.
بين أروقة البنك المركزي، ومكاتب بنك مصر والأهلي، وأصوات المصريين التي لبّت نداء الوطن بادخار الجنيه دعماً للجبهة،كانت الخزائن المصرية تتحول إلى خنادق دعم للوطن تؤكد أن الاقتصاد القوي يمكن أن يكون سلاحًا في يد الأمة لا يقل عن المدفع في يد الجندي.
تمويل في زمن الحرب
حين اندلعت شرارة المعركة، كانت الدولة المصرية تواجه تحديًا غير مسبوق: تمويل الحرب دون انهيار الاقتصاد.
البنك المركزي المصري وقتها اتخذ إجراءات دقيقة لتأمين الاحتياطي النقدي وتوجيه السيولة نحو المجهود الحربي، بينما قادت البنوك العامة حملة وطنية لجمع المدخرات عبر شهادات استثمار خاصة حملت أسماء مثل «شهادات النصر» و«ادخر لوطنك».
شارك المواطنون بمدخراتهم الصغيرة، من موظفين وفلاحين وتجار، وكان كل جنيه يدخل خزينة الدولة بمثابة طلقة جديدة في معركة التحرير.
كما لعبت البنوك دورًا أساسيًا في تمويل المصانع الحربية وتوفير الائتمان اللازم لتوريد المعدات والمواد الخام للصناعات الوطنية، بعد أن فرضت قوى الاستعمار قيودًا على الواردات والسلاح.
ومن خلال مسح شامل قام برصدة موقع «المحروسة» برصدة من في أرشيف البنك المركزي المصري، وثائق تكشف كيف تحولت الإدارة المالية للدولة إلى خلية أزمة تعمل على مدار الساعة.
خلال تلك الفترة، تم تجميد بعض المعاملات الخارجية وتأجيل دفع التزامات دولية لصالح تأمين موارد الدولة.
ووفقًا للرصد، كانت الأولوية المطلقة للجبهة، وكان التنسيق بين البنوك ووزارة الدفاع يجري بسرية تامة لضمان وصول التمويل في التوقيت الدقيق.
ورغم الظروف القاسية، نجحت البنوك في الحفاظ على استقرار سعر الجنيه ومنع حدوث تضخم جامح، وهو ما اعتبره خبراء الاقتصاد وقتها أحد مفاتيح الصمود المالي الذي دعم الانتصار العسكري.
بعد النصر، لم تتوقف المعركة. انتقلت البنوك من جبهة التمويل العسكري إلى جبهة التنمية الاقتصادية، الروح الوطنية التي وحدت المصريين في الحرب تحولت إلى طاقة بناء، شهدت البلاد بعدها توسعًا في إنشاء البنوك الوطنية وتزايدًا في ثقة المواطنين في الجهاز المصرفي.
أصبح الادخار فعلًا وطنيًا، والاستثمار واجبًا، والبنك مؤسسة ذات رمزية سيادية تمثل استقرار الدولة وقوتها.
من بين القصص الإنسانية التي لم توثق كفاية، حكايات موظفين في البنوك حملوا السلاح بأنفسهم أو تركوا مكاتبهم مؤقتًا لينضموا إلى صفوف الجيش، بعضهم عاد ليقود فروع البنوك بعد الحرب، وآخرون استشهدوا في المعركة.
كما نظمت البنوك حملات لدعم أسر الشهداء والمصابين، وأسهمت في تمويل صناديق الرعاية الاجتماعية للجنود العائدين.
اليوم وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على النصر، تواصل البنوك المصرية معركة مختلفة لكنها لا تقل أهمية: معركة التنمية.
تتبنى الدولة والبنوك معًا سياسات تمويلية تستهدف دعم المشروعات القومية، والتحول الرقمي، والشمول المالي، كامتداد طبيعي لمعركة أكتوبر ولكن في ميدان الاقتصاد.
في أكتوبر استخدمنا المال كسلاح لتحرير الأرض، واليوم نستخدمه لتحرير الإنسان من الفقر والعجز والتبعية، هكذا تستمر روح أكتوبر، في كل قرض تنموي، وكل مشروع صغير يحصل على تمويل، وكل فكرة اقتصادية تُولد لتخدم الوطن.
الاقتصاد سلاح النصر
تاريخيًا، أثبتت تجربة مصر في أكتوبر أن الانتصار لا يُصنع بالبندقية وحدها، بل يحتاج إلى اقتصاد منظم قادر على تحمّل الكلفة وتعبئة الموارد.
الاقتصاد القوي وقتها كان الدرع الحامي، والبنوك كانت عقل هذه المنظومة النابض.
لقد قاتلت مصر بجيشين، جيش يحارب على الجبهة، وجيش اقتصادي يحمي ظهر الوطن في الداخل.
وهكذا، تبقى قصة البنوك في حرب أكتوبر درسًا خالدًا في أن النصر لا يتحقق فقط بالسلاح، بل بالإيمان، والانضباط، والقدرة على تحويل الجنيه الواحد إلى طلقة في سبيل الحرية.
من روح الحرب إلى معركة المستقبل
لم تعد الدبابات هي سلاح النصر، بل أصبحت المبادرات الاقتصادية هي جبهة العبور الجديدة، فاليوم، تخوض البنوك المصرية معركة مختلفة، لكنها تحمل ذات الروح التي عبرت القناة قبل نصف قرن، روح التصميم، والمسؤولية، والإيمان بأن الوطن لا يُبنى إلا بسواعد أبنائه.
تتجسد «روح أكتوبر» في كل خطوة نحو التحول الرقمي، وفي كل مبادرة لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وفي كل خطة لدعم التمويل الأخضر ومشروعات الطاقة المستدامة.
ما تفعله البنوك اليوم في دعم الاستثمار، وتوسيع قاعدة الشمول المالي، وتحفيز الاقتصاد الإنتاجي، هو استكمال للمعركة نفسها التي بدأت في أكتوبر 1973.
لقد انتقلت مصر من نصر التحرير إلى نصر البناء، ومن معركة السلاح إلى معركة التنمية، ومن جبهة القتال إلى جبهة الاقتصاد.
وما بين العبور الأول لعبور جديد نحو المستقبل، يظل الجهاز المصرفي هو العمود الفقري للدولة، يحمي استقرارها، ويقودها نحو استقلال اقتصادي لا يقل شرفًا عن استقلال الأرض.
إن انتصارات أكتوبر لا تُقاس فقط بالخرائط العسكرية، بل تُقاس أيضًا بقدرة الوطن على الحفاظ على أمنه المالي واستقلال قراره الاقتصادي.
واليوم، بعد مرور نصف قرن، تثبت البنوك المصرية أنها ما زالت على جبهة النصر، تخوض حربًا جديدة من أجل رفعة الوطن، بسلاح التنمية، وإيمان لا ينكسر.