لم تكن المذاكرة يومًا مجرد عملية حفظ للمعلومات أو اجتياز للامتحانات، بل هي انعكاس حي لطبيعة كل عصر، وشاهد على التحولات التي مر بها المجتمع عبر عقود طويلة، وإذا كانت الأجيال القديمة قد صنعت مجدها تحت ضوء خافت قادم من لمبة جاز صغيرة، فإن أبناء اليوم يصنعون مستقبلهم بضغطة زر على جهاز تابلت أو آيباد.
وبين الجيلين هناك جيل ثالث، وُلد في التسعينات، ظل عالقًا في “المنطقة الرمادية”، لم يعش صرامة الماضي ولا رفاهية الحاضر، فصار نموذجًا لجيل “المكافحين في الظل”.
كثيرًا ما يحكي لنا آباؤنا وأمهاتنا عن معاناة الدراسة قديمًا. كانوا يذاكرون على أضواء خافتة، أحيانًا من لمبة جاز بالكاد تضيء الكراسة، لم تكن هناك وسائل إيضاح، ولا مكتبات ضخمة في كل بيت، ولا قنوات تشرح الدروس ليل نهار، كان السبيل الوحيد هو الكتاب المدرسي، والمعلم في المدرسة، والجهد الشخصي.
ورغم هذه الظروف، خرج من هذا الجيل قامات علمية وأدبية وفكرية، لأنهم آمنوا أن “العلم نور” حتى لو جاء هذا النور من شعلة جاز، لقد صنعوا مجدًا حقيقيًا بالتعب والكد، وكانوا مثالًا على أن الظروف الصعبة قد تصنع رجالًا ونساءً أكثر صلابة.
أما نحن جيل التسعينات فلم نكن من أصحاب “اللمبة الجاز”، لكننا لم نكن أيضًا من أبناء التكنولوجيا المتطورة، كنا نعيش في منتصف، لم نملك مكتبات إلكترونية ولا فيديوهات تعليمية على اليوتيوب، ولم يكن في أيدينا “تابلت” أو “آيباد”، كنا نذاكر بالكتب الورقية الضخمة، ونبحث عن المعلومة في المكتبة العامة أو “الموسوعة” إن وجدت في البيت.
جيلنا “اتفرم في النص”، لم نحظَ بصرامة الجيل القديم الذي ربته المشقة، ولا بمرونة جيل الإنترنت الذي توفرت له الحلول بضغطة زر، كنا جيلًا يسعى في ظل موارد محدودة، يحاول أن يواكب سرعة التغيير لكنه يشعر دومًا أنه متأخر خطوة عن الزمن.
ومع ذلك، خرج منا شباب صنعوا نجاحاتهم، لأنهم تعلموا الصبر والاعتماد على النفس، ولأن الحرمان من التسهيلات خلق بداخلهم عزيمة على الاجتهاد.
اليوم تغيّر كل شيء صار الطالب يذاكر أمام شاشة صغيرة تضم بين طياتها آلاف الكتب والمراجع والفيديوهات التوضيحية، بضغطة زر يستطيع أن يصل إلى شرح مادة علمية معقدة بلغة بسيطة، أو أن يتابع محاضرة من أستاذ جامعي في أقصى العالم.
لقد جعلت التكنولوجيا الطالب أكثر وعيًا، وأوسع اطلاعًا، وأقرب إلى المعلومة من أي وقت مضى. لكن هذا التقدم لم يأتِ دون ثمن، فقد صار التركيز أقل، والتشتت أكثر، والاعتماد على الأجهزة أكبر.
في الماضي، كان الطالب يقرأ ليحفظ، ويحفظ ليفهم، ويفهم ليطبق، أما الآن، فقد يكتفي البعض بالبحث السريع على “جوجل”، أو مشاهدة ملخص قصير على “تيك توك”، ليظن أنه امتلك المعرفة، وهنا تكمن الخطورة سهولة الوصول قد تقتل قيمة السعي.