منذ آلاف السنين، ظل نهر النيل شريان الحياة لمصر، وعلى ضفافه قامت حضارة علّمت الدنيا الزراعة والاستقرار، واليوم، مع بروز سد النهضة الإثيوبي كأضخم مشروع مائي في أفريقيا، دخلت مصر في معركة وجودية تمزج بين التاريخ والاقتصاد والسياسة والأمن القومي.
قضية لم تعد مجرد خلاف فني، بل صراع معقّد بين حقوق تاريخية وطموحات تنموية، بين وساطات دولية لم تنجح، وضغوط داخلية على المصريين الذين يعيشون القلق يوميًا.
الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل:
اتفاقية 1929 منحت القاهرة حق الاعتراض على أي مشروعات تهدد حصتها، لاسيما اتفاقية 1959 عززت نصيب مصر إلى 55.5 مليار متر مكعب سنويًا.
الرئيس الراحل حسني مبارك أكد مرارًا أن “المياه قضية حياة أو موت”، بينما شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي في الأمم المتحدة عام 2019 أن “النيل بالنسبة للمصريين مسألة وجود لا يمكن التهاون فيه.”
التأثير الاقتصادي والاجتماعي للسد:
سد النهضة يهدد قطاعات مصرية حيوية أبرزها
الزراعة حيث تفقد نحو مليون فدان إذا نقصت الحصة بـ 5 مليارات م³ فقط.
كما ثوثر على الصناعة من حيث زيادة تكاليف الصناعات الغذائية والنسيجية والدوائية بجانب
الكهرباء فاحتمالية تراجع إنتاج السد العالي.
وزير المالية الأسبق عمرو الجارحي: “أي عجز مائي سيكلف الاقتصاد المصري مليارات الدولارات سنويًا.”
المواقف الرسمية:
وزير الري الأسبق محمد عبد العاطي كشف أن مصر تعتمد على النيل بنسبة 97%، وأي تغيير في التدفقات يؤثر مباشرة على كل القطاعات.
وزير الخارجية سامح شكري في تصريحات صحفية قال إن الأمن المائي لمصر لا يمكن تجاوزه.. طرحنا كل الحلول العادلة لكن لا بد من اتفاق قانوني ملزم.
وزير الزراعة الأسبق عز الدين أبو ستيت صرح سابقا أن الفلاح المصري سيكون أول المتضررين من أي عجز في المياه.
وزير التموين الأسبق الراحل علي مصيلحي كشف في تصريحات سابقة أن المياه ليست قضية زراعة فقط، بل قضية أمن غذائي واجتماعي.
كواليس المفاوضات الفاشلة
مفاوضات واشنطن (2019 – 2020)
مصر وقّعت على اتفاق مبدئي، لكن إثيوبيا انسحبت فجأة.
مفاوضات كينشاسا (2021)
مصر والسودان طالبا بآلية ملزمة، وإثيوبيا رفضت مقترح الرباعية الدولية.
خرجت بلا نتائج، والمتحدث باسم الخارجية قال: “إثيوبيا تُصر على إضاعة الوقت.”
جولات أديس أبابا والخرطوم
مصر اقترحت ملء على 7 سنوات بدلًا من 3.
إثيوبيا تمسكت بالملء الأحادي.
أسباب فشل المفاوضات:
1. التعنت الإثيوبي ورفض أي التزامات قانونية.
2. غياب آلية ملزمة لتنفيذ ما يُتفق عليه.
3. تضارب المصالح الدولية بين مصر والسودان وإثيوبيا.
4. عامل الوقت: إثيوبيا تستغله لفرض أمر واقع.
الضغوط الدولية والإقليمية
الولايات المتحدة هددت بتقليص المساعدات لإثيوبيا ثم خففت موقفها.
الاتحاد الأوروبي أصدر بيانات عامة دون ضغط حقيقي.
الاتحاد الأفريقي اكتفى بالوساطة بلا أدوات إلزامية.
بعض دول الجوار مثل كينيا وأوغندا انحازت لمصالحها مع إثيوبيا.
الدور الأفريقي والعربي
الاتحاد الأفريقي حاول الوساطة منذ 2020، دون نتائج حاسمة.
الجامعة العربية أكدت أن الأمن المائي لمصر والسودان جزء من الأمن القومي العربي.
دول الخليج دعمت الموقف المصري سياسيًا ودبلوماسيًا.
السودان ظل مترددًا لكنه أكد لاحقًا ضرورة اتفاق ملزم.
الحلول والبدائل المصرية
إنشاء محطات تحلية على البحرين الأحمر والمتوسط.
مشروع “بحر البقر” لمعالجة مياه الصرف.
تحديث نظم الري من الغمر إلى التنقيط.
مشروعات إقليمية مشتركة في الطاقة والزراعة.
وزير الري هاني سويلم قال في تصريحات صحفية إن مصر لم تعد تنتظر النهر وحده، بل تستثمر في بدائل تضمن المستقبل.
الإعلام والرأي العام
القنوات الفضائية والصحف سلّطت الضوء على خطورة القضية.
حملات توعية مثل “كل نقطة بتفرق” رسخت ثقافة ترشيد المياه.
السوشيال ميديا تحولت لساحة نقاش بين القلق الشعبي والدعم للموقف الرسمي.
الأمن القومي المصري
خبراء استراتيجيون يعتبرون الأمن المائي جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي.
وزير الدفاع الفريق محمد زكي أكد أن القوات المسلحة تتابع عن كثب كل ما يمس أمن مصر المائي.”ط
السيناريوهات المستقبلية
1. سيناريو التعاون: اتفاق قانوني ملزم يحقق التنمية لإثيوبيا ويحافظ على حصة مصر.
2. سيناريو الجمود: استمرار الوضع الراهن مع اعتماد مصر على بدائل داخلية.
3. سيناريو الأزمة: تصعيد أحادي من إثيوبيا قد يدفع مصر لخيارات أكثر حدة.
سد النهضة إذًا ليس مشروعًا عاديًا، بل تحدٍ وجودي يضع مصر أمام مفترق طرق. بين حقوق تاريخية، وضغوط اقتصادية، ومفاوضات عقيمة، وضغوط شعبية، يبقى المبدأ المصري ثابتًا: النيل حياة مصر ولن يُسمح بالمساس به.
كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي: محدش يقدر يمس نقطة مياه من مصر.. وإلا هتبقى الفوضى في المنطقة كلها.”