في زمنٍ تهاوت فيه الثوابت تحت وطأة المصالح، واختلطت فيه السياسة بالتجارة، كانت مصر وحدها تُدرك أن الرفض أحيانًا أسمى من القبول، وأن “لا” حين تخرج من فم دولةٍ تعرف قدرها،قد تُعيد رسم الجغرافيا السياسية بأكملها.
لم تكن “لا” التي قالها الرئيس عبد الفتاح السيسي مجرد كلمةٍ في وجه ضغوطٍ دولية، بل كانت إعلانًا صريحًا لاستقلال الإرادة، واستردادًا لمفهوم الدولة ذات السيادة في عالمٍ كاد أن ينسى معناها.
بدأت القصة حين عُرض على مصر أن تكون شريكًا في صفقة القرن،أن تُقدّم أرضًا بديلاً، وتُهجر قناعةً وطنية مقابل مليارات الدولارات وشطب الديون.
كانت المساومة مغرية، والوعود فخمة،لكن مصر التي تعرف ثمن التاريخ، رفضت أن تبيع المستقبل.
قالت لا، لأن الذاكرة الوطنية لا تُمحى بالذهب، وقالت لا، لأن ما يُشترى لا يُحترم، وما يُفرض لا يدوم.
ولأن هذه الكلمة خرجت من عقل الدولة لا من انفعال الموقف،كانت “لا” المصرية بدايةً لتحوّل عالمي في فهم حدود الممكن السياسي.
عندما فشل الإغراء، بدأ الابتزاز، البحر الأحمر، قناة السويس، الجنوب، السد،كلها أوراق أُطلقت لتقويض الثقة المصرية في قرارها.
لكن الدولة التي خرجت من عصور الفوضى أكثر وعيًا بموقعها،لم ترتب، ولم ترد بالصوت العالي، بل بالفعل الهادئ،بالصبر الاستراتيجي لا بالاستجابة الانفعالية.
لقد كان الرهان على كسر الإرادة،لكنهم لم يفهموا أن مصر حين تصمت، فهي تُخطط،وحين ترفض، فهي تُعيد ترتيب الإقليم بما يناسبها.
منذ أن قالت “لا” للمليارات،و“لا” للتهديد بالحدود،و“لا” للمساومة على سيناء،كانت تُمهّد لليوم الذي يأتي فيه الجميع إلى مصر لا ليفاوضوا، بل ليوقعوا.
كانت الحرب الحقيقية على الوعي، لا على الأرض.
حملات إعلامية، تشويه متعمد، تضخيم لمشكلات الداخل،رسمٌ متكرر لصورة الدولة الصلبة على أنها دولة متشددة.
لكن المصريين، بتجربتهم الطويلة مع الزمن،
قرأوا ما وراء السطور، أدركوا أن ما يُراد لم يكن نقدًا سياسيًا بل كسرًا للثقة.
وحين فشل الخطاب المعادي في اختراق الداخل، بدأ الخارج يُدرك أن مصر لا تُدار من شاشات، ولا يُؤثّر فيها منابر ممولة،بل تحكمها معادلة وعيٍ متجذر لا يتزعزع.
اليوم، بينما تأتي واشنطن إلى شرم الشيخ لتوقّع اتفاق السلام، يُدرك العالم أن المشهد ليس دبلوماسيًا بقدر ما هو رمزي.
فالذين طالبوا بأن تُسافر مصر إليهم،يأتون الآن إليها، ومن حاولوا أن يفرضوا خريطةً جديدة للمنطقة،يُقرّون اليوم بأن القلم في يد القاهرة،وأن لا استقرار في الإقليم من دون توقيعها أو رضاها.
إنها لحظة انقلاب في موازين السياسة،حيث تحوّلت مصر من موقع الدفاع إلى موقع القرار،ومن دولةٍ تُستهدف إلى دولةٍ يُستأذن منها.
ليست كل الدول قادرة على أن تقول “لا”،فبعضها يخاف فقدان المساعدات،وبعضها يخشى خسارة التحالفات،لكن مصر قالتها لأنها تعرف أنها الأصل لا الفرع،وأن التاريخ لا يصنعه من ينتظر الإملاء، بل من يرفضه.
“لا” هنا لم تكن رفضًا آنياً، بل موقفًا تأسيسيًا أعاد تعريف السيادة في المنطقة، ومع كل “لا” جديدة،
كانت الدولة تضع لبنةً إضافية في جدار الاستقلال الوطني،حتى صارت الكلمة المصرية مرجعًا،
وصار الموقف المصري معيارًا لثبات المبدأ وسط فوضى التوازنات.
حين يقول رئيسٌ “لا”،ويصمد شعبٌ خلف تلك الكلمة،
يُعاد تعريف معنى الدولة في زمنٍ كاد أن ينساه.
هذه ليست رواية عن رفضٍ عابر،بل عن وعيٍ سياسي عميق، وفلسفة حكم تؤمن بأن السيادة ليست شعارًا بل ممارسة.
وحين تمشي واشنطن اليوم في دهاليز قصر القاهرة لتوقّع اتفاق السلام،فإنها، في الحقيقة، تُوقّع على اعترافٍ ضمني بأن من قال لا، كان على حق، لقد قالت مصر لا للعالم،فأجبرته أن يقول لها نعم.