ليس السؤال “خفض أم بنزين؟” مجرد عبارة ساخرة تتردد في الشارع المصري، بل هو نصٌّ شعبي فصيح، يختصر مأساة الاقتصاد حين يتحول من علمٍ يدرس التوازنات إلى عبءٍ يثقل الجيوب.
إنه سؤالٌ بسيط في صياغته، عميق في دلالته، إذ يكشف عن الوعي الفطري للناس، الذين لا يلتفتون إلى نشرات البنوك ولا إلى مصطلحات النمو والاستثمار، بل إلى حياتهم المباشرة،« لتر البنزين، رغيف الخبز، تذكرة المواصلات، وزجاجة الزيت».
خفض البنك المركزي أسعار الفائدة 1%، فتسابق الخبراء إلى التحليل دعم للاستثمار، تخفيف لتكلفة التمويل، تشجيع على الإنتاج، لكن المواطن لا يعرف هذه المصطلحات، بل يعرف أن جيبه يئنّ، وأن كل جنيه يساوي عرقًا وساعات من الكد.
لذلك، حين يسمع كلمة “خفض”، يسأل بعفوية.. “هل انخفض البنزين؟ هل ارتاحت أجرة الميكروباص؟” لأنه يترجم لغة الاقتصاد إلى لغة الحياة اليومية.
المواطن لا يقرأ المؤشرات الدولية ولا يترقب تقارير التصنيف الائتماني، بل يقرأ أسعار السوق كل صباح، إن الاقتصاد عنده ليس بيانًا رسميًا بل سلعة في يده، ورغيف يضعه على مائدة بيته.
من هنا يصبح “خفض أم بنزين؟” معادلة بديلة، أكثر صدقًا من كل الرسوم البيانية: إن لم يصل القرار إلى جيبه، فهو لا يعنيه.
على السوشيال ميديا، تنتشر الكوميكس التي تسخر من القرار، صور لعداد البنزين مع تعليق: “هو ده الخفض اللي مستنيينه”، وأخرى تربط الفائدة بأجرة المواصلات، لكن هذه السخرية ليست هروبًا من الواقع، بل فضحًا له.
إنها لغة الشعب حين تضيق به اللغات الرسمية. وراء الضحك، تختبئ مرارة، وإحساس بأن القرارات تمر من فوقه دون أن تمسه.
لا يمكن أن نختزل الاقتصاد في سعر لتر البنزين، فذلك اختزال ظالم، لكن لا يمكن أيضًا أن نتجاهل أن البنزين بالنسبة للمواطن رمزٌ لكل ما يعيشه: إذا ارتفع سعره، شعر بثقل العالم، وإذا ثبت سعره، شعر ببعض الأمان.
من هنا، فإن أعظم نجاح لأي سياسة اقتصادية ليس في جداول البنوك ولا في تقارير المستثمرين، بل في لحظة صمتٍ يفتح فيها المواطن محفظته آخر النهار، ويجد أن ما فيها يكفيه.
“خفض أم بنزين؟” سؤال يظنه البعض هينًا، لكنه في جوهره صرخة وجودية من قلب البسطاء.
، إنه سؤال العدالة قبل أن يكون سؤال الاقتصاد، وسؤال الحياة قبل أن يكون سؤال الأرقام. وحين يجد هذا السؤال إجابته الحقيقية، نستطيع أن نقول إن السياسات وصلت إلى هدفها، وإن الاقتصاد صار حياةً لا مجرد معادلات.