لم يعد البنك المركزي المصري مجرّد جهة تنظيمية مسؤولة عن السياسة النقدية وأسعار الفائدة وإدارة السيولة، بل تحول في السنوات الأخيرة إلى لاعب رئيسي في ملف تنموي محوري وهو التعليم.
هذا التحول لم يأتي صدفة، وإنما يعكس رؤية استراتيجية للدولة، تدرك أن الاستقرار المالي وحده لا يكفي دون وجود كوادر بشرية مؤهلة ومتعلمة ومدربة، قادرة على إدارة الموارد وتطوير الاقتصاد.
وجاءت قفزة البنك المركزي الأحدث في هذا الاتجاه، من خلال إطلاق برنامج بكالوريوس العلوم المصرفية بالتعاون مع خمس جامعات حكومية، وهي، القاهرة، عين شمس، حلوان، الإسكندرية، وجامعة الجلالة، ضمن مشروع أوسع يستهدف إعادة رسم العلاقة بين التعليم العالي وسوق العمل.
ماذا حدث في مؤتمر اليوم؟
خلال مؤتمر مشترك بين البنك المركزي المصري ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وبحضور محافظ البنك المركزي حسن عبد الله ووزير التعليم العالي الدكتور أيمن عاشور، تم الإعلان عن تفاصيل البرنامج الجديد، الذي اعتُبر بمثابة أول تدخل مباشر للبنك المركزي في تطوير المناهج الجامعية.
البرنامج يقدم درجة علمية متخصصة في العلوم المصرفية، مع اعتماد مناهج حديثة تُراعي متطلبات البنوك والأسواق العالمية، وتركز على مفاهيم مثل التكنولوجيا المالية، الذكاء الاصطناعي، الحوكمة، والاستدامة، بجانب الأساسيات الاقتصادية والمحاسبية.
لكن الميزة الأبرز ليست في المناهج، بل في نموذج التدريب العملي المرتبط به، حيث سيخضع الطلاب لتدريب أسبوعي داخل البنوك، بالإضافة إلى عام كامل من التدريب الميداني المكثف قبل التخرج، كشرط أساسي للحصول على الشهادة النهائية.
البنك المركزي يغطي نصف التكلفة.. ويحفيز الاجتهاد
ولتسهيل التحاق الطلاب، أعلن البنك المركزي أنه سيتكفل بـ50% من تكلفة الشهادة الدولية المصرفية التي سيحصل عليها الطلاب مع نهاية البرنامج، في حين يُعفى الطالب من دفع النصف الآخر إذا اجتاز الاختبارات المطلوبة بتفوق، مما يشجع الطلاب على الجدية والالتزام.
هذا المبدأ دعم مادي مشروط بالاجتهاد يعكس توجهًا تربويًا جديدًا يدمج بين الحافز الاقتصادي والانضباط الأكاديمي، وهو ما كان مفقودًا في كثير من البرامج السابقة.
مدارس مصرفية فنية.. وتعليم مزدوج مبكر:
البنك المركزي لم يكتفِ بالتعليم الجامعي، بل سبق أن دخل إلى مجال التعليم الفني من خلال دعمه لتأسيس مدارس التكنولوجيا التطبيقية المصرفية، وهي نموذج جديد يقدّم تعليمًا مصرفيًا مبكرًا لطلاب المرحلة الثانوية.
الطلاب في هذه المدارس يتلقون مواد أكاديمية جنبًا إلى جنب مع تدريبات عملية داخل البنوك المشاركة في المبادرة، مثل بنك مصر والبنك الأهلي، مما يمنحهم فرص توظيف حقيقية فور التخرج.
وقد بدأت هذه التجربة في القاهرة، ثم توسعت تدريجيًا لتشمل محافظات أخرى.
الشمول المالي يبدأ من الجامعة:
البنك المركزي لا يتحرك من فراغ، بل يسير ضمن خطة متكاملة لتعزيز الشمول المالي، تبدأ من فتح حسابات بنكية مجانية للطلاب، مرورًا بتثقيفهم ماليًا، ووصولًا إلى إعدادهم وظيفيًا.
ولذلك، ينفذ البنك حملات توعية وندوات وورش عمل داخل الجامعات المصرية طوال العام، لتعليم الطلاب كيفية إدارة ميزانياتهم، وفهم الفائدة والتقسيط، والتعامل مع أدوات الدفع الإلكتروني.
هذا التثقيف لا يهدف فقط إلى زيادة عدد المتعاملين مع البنوك، بل أيضًا إلى تغيير الثقافة المجتمعية التي اعتادت لفترة طويلة الاعتماد على الكاش، وتجنّب التعامل مع المؤسسات المالية.
الجامعات تستقبل البرنامج بتفاؤل:
في جولة داخل بعض الجامعات المشاركة، رصد «المحروسة» حالة من الترقب الإيجابي تجاه البرنامج الجديد.
أستاذة الاقتصاد بجامعة عين شمس، تقول،
هذه خطوة طال انتظارها، لأنها تُنهي عزلة المناهج الجامعية عن واقع السوق، ما ندرسه اليوم سيكون له تطبيق غدًا في البنوك، والنتيجة طالب فاهم ليس حافظ.
أما الطلاب، فبدا بعضهم متحمسًا للفكرة، مع تمنيات بوضوح الرؤية التنفيذية وعدم اقتصار البرنامج على الشو الإعلامي.
تحديات يجب الانتباه لها
رغم التفاؤل، يرى متخصصون أن هناك مجموعة من التحديات يجب أخذها في الاعتبار لضمان نجاح التجربة، منها:
القدرة على توفير تدريب حقيقي وليس شكلي داخل البنوك.
التأكد من تأهيل الأساتذة الجامعيين لتدريس المناهج الحديثة.
التنسيق المستمر بين البنك المركزي والجامعات لضمان جودة التطبيق.
تيسير شروط الالتحاق وعدم اقتصار البرنامج على فئة معينة من الطلاب.
دور البنك المركزي في دعم التعليم غير الرسمي
جانب آخر لا يقل أهمية، هو ما قام به البنك المركزي من خلال مبادرات دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتي استفاد منها عدد كبير من المدارس الخاصة ومراكز التدريب، خاصة في المناطق الريفية والمحرومة.
فبفضل القروض الميسّرة والمبادرات التمويلية منخفضة الفائدة، تمكّنت هذه المؤسسات من تجديد الفصول الدراسية، وتحديث المناهج، وشراء أدوات تعليمية رقمية، وهو ما رفع من جودة التعليم خارج الإطار الحكومي.
منهج شمولي لبناء أجيال جديدة:
ما يقوم به البنك المركزي المصري ليس تدخلًا سطحيًا في مجال التعليم، بل هو منهج شمولي يشمل:
الجامعات: عبر البرامج الأكاديمية والتدريب البنكي.
التعليم الفني: عبر المدارس التكنولوجية المصرفية.
التثقيف العام: عبر حملات التوعية في المدارس والجامعات.
دعم المؤسسات: عبر تمويل البنية التحتية للتعليم.
وهذا يُظهر أن البنك بات يتعامل مع التعليم كأداة اقتصادية وليس مجرد مسؤولية اجتماعية.
الاستثمار الحقيقي يبدأ من العقل:
في ظل ما تشهده مصر من تحولات اقتصادية كبرى، أصبح واضحًا أن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الأسرع والأضمن للنهوض، والبنك المركزي يبدو مدركًا لهذا جيدًا.
فإذا استمرت هذه الرؤية وتوسعت، فقد تتحول مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الكوادر المصرفية، لا مجرد مستورد للخبرات.
النجاح هنا لا يقاس بعدد المؤتمرات، بل بعدد العقول التي تم إعدادها بشكل فعلي للمستقبل.