بينما تُرفع شعارات الاستقلال والسيادة في العواصم العربية، تكشف خرائط الانتشار العسكري الأمريكي عن واقع آخر، حيث تنتشر القواعد الأمريكية في دول الخليج والشرق الأوسط، مكونة ما يشبه الطوق الجوي والعسكري الذي يتيح لإسرائيل مجالًا مفتوحًا للتحرك بأمان في الأجواء، فهل تحولت هذه القواعد إلى بوابة عبور استراتيجية تمنح إسرائيل اليد العليا، أم أنها مجرد أدوات ضغط أمريكية لحماية مصالحها في المنطقة؟
ويرى محللون أن “القبول الضمني بمرور الطائرات الإسرائيلية، حتى لو لم يكن مُعلناً، يعكس حالة من الارتهان السياسي”، إذ تخشى بعض الحكومات الدخول في صدام مباشر مع واشنطن قد يهدد مصالحها الاقتصادية والأمنية، وهكذا يتحول النفوذ العسكري الأمريكي إلى أداة ضغط ناعمة تُستخدم لفرض أمر واقع على دول المنطقة، يُتيح لإسرائيل حرية أكبر في تنفيذ عملياتها الجوية أو الاستطلاعية.
وفي سياق متصل قال، خبير استراتيجي مصري إن القواعد الأمريكية تمثل “مظلة ردع” تحمي المصالح الأمريكية والإسرائيلية في آن واحد، وتجعل أي مواجهة عسكرية محتملة في المنطقة محسوبة بدقة.
وأوضح أن هذه القواعد تُعد “حصان طروادة”، تُدخل النفوذ الإسرائيلي إلى عمق المنطقة من دون أن تطأ قدماه أراضيها.
ومن جهه أخرى أكد باحث خليجي رفض الأفصاح عن أسمة أن بلاده “مكبلة باتفاقيات أمنية” مع واشنطن، تجعل من الصعب رفض الطلبات المتعلقة بمرور أو تنسيق الطيران العسكري.
أبعاد النفوذ العسكري الأمريكي:
تشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة تمتلك عشرات القواعد العسكرية في الخليج العربي، أبرزها في قطر (قاعدة العديد)، الكويت، البحرين، والإمارات، إضافة إلى وجود متقدم في الأردن والعراق وسوريا، هذه القواعد مزودة بأحدث منظومات الرادار والدفاع الجوي، وتعمل بشكل وثيق مع شبكات المراقبة الفضائية الأمريكية.
وجود هذه القواعد يمنح واشنطن قدرة استثنائية على التحكم في الأجواء العربية، لكنه في الوقت نفسه يفتح ثغرة يمكن لإسرائيل الاستفادة منها. فحين تعبر الطائرات الإسرائيلية الأجواء أو تنفذ عمليات عسكرية، فإنها تجد غطاءً استراتيجياً نادراً ما يتعرض للتشويش أو الاعتراض.
إسرائيل والممرات الجوية المحمية:
تاريخياً، اعتمدت إسرائيل على تنسيق مع بعض الدول الغربية لضمان حرية طيرانها العسكري، لكن مع تمركز القواعد الأمريكية في قلب الخليج، بات الوضع أكثر تعقيداً وخطورة؛ إذ إن هذه القواعد وفرت مظلة دفاعية غير مباشرة، حيث يصعب على أي دولة عربية أن تتحدى الطيران الإسرائيلي في مناطق تخضع لمراقبة أمريكية مباشرة.
مصادر عسكرية عربية غير رسمية ترى أن “إسرائيل لا تحتاج بالضرورة إلى قواعد أمريكية على أرضها، فهي تمتلك الآن شبكة حلفاء وأصدقاء يفتحون لها المجال الجوي بحكم النفوذ الأمريكي”.
مقارنة تاريخية..ممرات بديلة لإسرائيل
لم تكن إسرائيل يومًا معزولة عن محيطها الإقليمي في ما يخص المجال الجوي، فخلال عقود سابقة، اعتمدت على المرور عبر المجال الجوي التركي لتنفيذ مناورات أو عمليات عسكرية بعيدة المدى، كما نسقت مع إثيوبيا في فترات مختلفة لاستخدام أجوائها كغطاء لعمليات استخباراتية وعسكرية في القرن الإفريقي.
لكن مع انتشار القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط، لم تعد إسرائيل بحاجة إلى مثل هذه الترتيبات المكلفة، إذ أصبح النفوذ الأمريكي هو الضامن لمرور آمن وسلس عبر أجواء المنطقة، وهو ما يضاعف التحديات أمام الدول العربية التي تجد نفسها عاجزة عن التحكم الكامل في أجوائها.
التأثير الإقليمي والبعد الأمني
لا يتوقف تأثير القواعد الأمريكية عند حدود تسهيل المرور الجوي لإسرائيل، بل يمتد ليشكل إعادة رسم لمعادلات الأمن الإقليمي فوجود هذه القواعد يجعل بعض الدول العربية أكثر اعتماداً على المظلة الأمريكية، ما يضعف قدرتها على بناء تحالفات عربية داخلية أو تطوير منظومات دفاعية مستقلة.
أبعاد السيادة الوطنية
هنا يبرز سؤال جوهري: إلى أي مدى ما زالت الدول العربية قادرة على التحكم في أجوائها وسيادتها؟
وجود قواعد أجنبية يعني عملياً أن القرار ليس محلياً بالكامل، بل يخضع لتوازنات أوسع تقودها واشنطن. وهذا يخلق ثغرة استراتيجية تستفيد منها إسرائيل، سواء بشكل مباشر عبر السماح بمرور طائراتها، أو غير مباشر عبر شل قدرة الدول العربية على الرد.
سيناريوهات مستقبلية
في ظل هذا الواقع، تطرح تساؤلات حول المستقبل: هل يمكن أن تعيد بعض الدول العربية التفاوض بشأن وجود القواعد الأمريكية على أراضيها؟ بعض المحللين يرون أن تصاعد التوترات الإقليمية مع إيران أو روسيا قد يدفع واشنطن إلى تعزيز وجودها لا تقليصه، بينما يعتقد آخرون أن الضغوط الشعبية والاعتبارات السيادية قد تفرض على الحكومات إعادة النظر في شكل هذه الاتفاقيات.
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن استمرار الوضع الراهن يعني امتلاكها ورقة قوة إضافية، حيث تستطيع تنفيذ عمليات عسكرية في عمق المنطقة دون خوف من اعتراض عربي حقيقي. لكن أي تحول في مواقف الدول المضيفة، حتى لو كان تدريجياً، قد يغيّر المعادلة ويعيد رسم حدود الحركة الجوية في الشرق الأوسط.