رفعت إثيوبيا راية “سد النهضة” كرمز للقوة والسيادة، كان رهانها الأساسي أن مصر ستدخل في مأزق مائي يضعها على حافة العطش، لكن المفارقة التاريخية أن القاهرة لم تكتفِ بتأمين حصتها المائية، بل وضعت خطة متكاملة جعلت من كل قطرة مياه أداة للتنمية، حتى وصلت المياه إلى أراضي صحراوية كانت لسنوات طويلة خارج نطاق الاستصلاح. هكذا تحولت الأزمة من ورقة ضغط إثيوبية إلى فرصة مصرية لتغيير خريطة الزراعة والمياه.
مصر تقرأ اللعبة مبكرًا
منذ بدايات التفاوض حول السد، أدركت مصر أن أديس أبابا تستهدف أكثر من مجرد إنتاج الكهرباء؛ الهدف الخفي كان خلق معادلة إقليمية جديدة تجعل مصر تحت ضغط مائي دائم.
لكن القاهرة تعاملت مع الملف بمنهج “التخطيط الاستباقي” عبر،توسيع مشروعات تحلية المياه على البحرين الأحمر والمتوسط، وإعادة تدوير المياه من خلال محطات عملاقة مثل “بحر البقر” بطاقة 5.6 مليون متر مكعب يوميًا.
وإطلاق منظومة إدارة ذكية للمياه تستخدم الأقمار الصناعية لمتابعة استهلاك كل فدان.
هذه الرؤية حولت النقاش من كم تصلنا من مياه النيل إلى كيف نستغل كل نقطة مياه تصلنا.
المياه تصل الصحراء الزراعة كأداة للسيادة
المشهد الأكثر وضوحًا لهذا التحول يتمثل في المشروعات الزراعية القومية، الدلتا الجديدة مشروع يتجاوز 2 مليون فدان، يشكل أكبر توسع زراعي في مصر منذ عصر محمد علي.
وتوشكى الذي كان يُقال إنه “فشل”، عاد ليصبح أكبر مشروع لاستصلاح الأراضي في جنوب الوادي، مدعومًا بأنظمة ري حديثة.
مستقبل مصر الذي يربط بين العلمين والدلتا الجديدة، ليصبح مركزًا لإنتاج الحبوب والخضروات والفواكه.
بهذه المشروعات لم تعد الصحراء مجرد امتداد قاحل، بل تحولت إلى جبهة زراعية متقدمة، تمد الأسواق المحلية وتفتح باب التصدير.
فشل الرهان الإثيوبي
إثيوبيا كانت تعوّل على ثلاث فرضيات أبرزها إضعاف الموقف التفاوضي المصري من خلال فرض الأمر الواقع، إحداث فجوة في الأمن المائي المصري تُضعف قدرته على التنمية، كسب شرعية داخلية وخارجية باعتبار السد رمزًا للنهضة.
لكن الواقع كشف العكس:
مصر وسعت استثماراتها في البنية التحتية المائية بشكل لم يسبق له مثيل.
لم يتأثر الأمن الغذائي كما توقعت أديس أبابا، بل ارتفع الإنتاج المحلي.
السد نفسه أصبح عبئًا على إثيوبيا اقتصاديًا وسياسيًا، حيث لم يحقق إنتاج الكهرباء بالمعدلات المعلنة.
الاقتصاد السياسي للمياه
أزمة سد النهضة لم تعد مجرد ملف “مياه”، بل أصبحت اختبارًا للقدرة المصرية على إدارة الموارد. ومن خلال التحركات الأخيرة، أمنت مصر مليارات الدولارات من الاستثمارات الزراعية التي ترتبط بالمشروعات الجديدة.
قللت فاتورة الاستيراد من الحبوب والزيوت تدريجيًا.
رسخت نفوذها في إفريقيا عبر شراكات مع السودان وأوغندا وكينيا في مشروعات ربط كهربائي وزراعي.
بهذا تحولت الأزمة إلى رافعة للقوة الناعمة المصرية في القارة.