الأرقام التي أعلنها البنك المركزي بشأن حجم التسويات اللحظية (RTGS) خلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2025 ليست مجرد إحصاءات مصرفية، بل تعكس حيوية النظام المالي المصري، وحجم الثقة المتزايدة في البنية التحتية للدفع الإلكتروني، فالحديث عن تسويات تجاوزت 169 تريليون جنيه يعني أننا أمام نظام قادر على استيعاب التدفقات المالية الضخمة بكفاءة، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات أعمق.. كيف ينعكس ذلك على الاقتصاد الحقيقي؟ وما علاقته بجذب الاستثمارات وتثبيت استقرار السوق النقدية؟
بحسب بيانات البنك المركزي، بلغ إجمالي العمليات المنفذة عبر نظام التسوية اللحظية نحو 1.71 مليون عملية خلال الفترة من يناير إلى أغسطس 2025. هذه العمليات لا تُعد معاملات يومية عادية، بل هي تحويلات كبيرة الحجم وعالية الأهمية تخص البنوك والمؤسسات المالية، بما يعني أن النظام يعمل كـ”شريان رئيسي” يضخ السيولة في جسد الاقتصاد المصري.
القيمة المسجلة – 169.3 تريليون جنيه – تعكس أن هناك دورة مالية نشطة بين البنوك، وأن الثقة في سرعة وكفاءة النظام تسهم في تقليل وقت التسوية وتخفيف المخاطر، الأمر الذي ينعكس على استقرار التعاملات التجارية والاستثمارية داخل السوق.
قراءة تحليلية للتوزيع الشهري
التوزيع الشهري للتسويات كشف عن تذبذبات طبيعية مرتبطة بالمواسم الاقتصادية.
مارس ويوليو سجلا أعلى قيم (25.4 و23.4 تريليون جنيه)، ما يتزامن مع مواسم الحصاد، زيادة حركة التجارة الخارجية، وإقفال حسابات نصف العام.
بينما شهد مايو وأغسطس تراجعًا نسبيًا (17.8 و17.6 تريليون جنيه)، وهو ما قد يرتبط بفترات تباطؤ موسمية أو تغير في أنماط التدفقات النقدية.
هذه القراءة تكشف أن النظام لا يقتصر دوره على تسوية العمليات فحسب، بل يوفر أيضًا مؤشرات لحركة الاقتصاد الكلي، يمكن الاعتماد عليها في رسم سياسات نقدية أكثر دقة.
البعد الاستراتيجي
أهمية نظام التسوية اللحظية تتجاوز كونه أداة تقنية. فهو:
1. خط دفاع أول ضد المخاطر: إذ يضمن أن المعاملات ذات القيمة الكبيرة تُسوى فورًا، ما يقلل من مخاطر التعثر بين البنوك.
2. عامل جذب للاستثمارات: المستثمرون ينظرون إلى قوة أنظمة الدفع باعتبارها معيارًا لقياس كفاءة الاقتصاد. كلما زادت سرعة التسوية وقلت المخاطر، ارتفع مستوى الثقة في السوق.
3. رافعة للشمول المالي: دعم هذا النظام للبنية التحتية الرقمية يعزز من توجه الدولة نحو الاقتصاد غير النقدي، وهو ما ينعكس في زيادة الاعتماد على وسائل الدفع الإلكتروني.
كيف يستفيد الاقتصاد الحقيقي؟
رغم أن الأرقام تخص القطاع المصرفي، إلا أن تأثيرها يتسرب إلى الاقتصاد الحقيقي بشكل مباشر:
الشركات تجد تمويلاتها وتحويلاتها تُسوى بسرعة أكبر، ما يرفع كفاءة عملياتها التجارية.
البنوك تقلل من المخاطر التشغيلية، ما يتيح لها مساحة أكبر لتقديم الائتمان والتمويل للمشروعات.
الحكومة تستفيد من كفاءة النظام في إدارة السيولة العامة والتزاماتها المالية.