في وقت تتجه فيه أنظار الدول إلى تأمين مصادر مستقرة للنقد الأجنبي، برزت تحويلات المصريين بالخارج كأحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد المصري، ليس فقط كرقم مالي ضمن موازين الدولة، بل كمؤشر على الارتباط الوطني والثقة في المؤسسات المصرفية.
وعلى مدار 9 سنوات، شهدت هذه التحويلات تطورًا كبيرًا، قفزت فيه من نحو 17.1 مليار دولار في 2016 إلى أكثر من 32.8 مليار دولار في 2022، قبل أن تستقر مؤخرًا عند حدود 32.8 مليار دولار، وفقًا لبيانات البنك المركزي.
هذا التطور لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة منظومة كاملة من السياسات النقدية، وتغيرات اقتصادية كبرى، خلقت مناخًا مناسبًا لاستقطاب التحويلات بشكل رسمي ومستدام.
الخبراء أكدوا لـ”المحروسة” أن تعويم الجنيه جعل التحويلات أكثر جدوى للمصريين بالخارج، وشجّعهم على زيادة تحويلاتهم عبر القنوات الرسمية بدلاً من السوق السوداء، كما ساعد في دعم أرصدة النقد الأجنبي في البنوك وتحقيق توازن في ميزان المدفوعات.
وأشار الخبراء إلى أن ارتفاع قيمة التحويلات جاء نتيجة عاملين رئيسيين: الأول هو تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي، مما ألغى دوافع التحويل عبر السوق السوداء، والثاني هو ثقة المصريين في النظام المصرفي بعد تعافي البنوك وزيادة قدرتها على توفير الدولار.
كما لفتوا إلى أن تحويلات المصريين بالخارج لم تقتصر فقط على الدعم المالي، بل أصبحت أيضًا مؤشرًا على ارتباط المصري المغترب باقتصاد بلده، واستعداده للمساهمة في استقراره.
وأوضحوا أن هذه التحويلات كانت طوق نجاة في فترات الأزمات، وقللت الحاجة إلى الاقتراض الخارجي في بعض الفترات الحرجة.
وليد ناجي: تحويلات المصريين صمام أمان للاقتصاد في الأزمات
وفي سياق متصل قال وليد ناجي الخبير المصرفي، إن التحويلات لم تكن فقط أموالًا تدخل إلى السوق، بل صمام أمان للاقتصاد المصري في أوقات الأزمات خلال السنوات الماضية على سبيل المثال جائحة كورونا، أو الأزمة الأوكرانية، كانت تحويلات المصريين عامل استقرار مهم في ميزان المدفوعات”.
كما أكد ناجي أن المصريين في الخارج أصبحوا أكثر وعيًا بأهمية دورهم، والإحساس بالمسؤولية أيضًا، لافتًا إلى أن الدولة بدورها وفرت مناخًا مصرفيًا مشجعًا، لكن لا بد من الاستمرار في تحسين العوائد والحوافز للمغتربين.
وتابع أن هناك حاجة لتوسيع الخدمات الرقمية، وتسهيل فتح الحسابات، خاصة للأجيال الجديدة من المصريين في الخارج، الذين يعتمدون بشكل كامل على التطبيقات البنكية.
سهر الماطي: التحويلات سلاح اقتصادي غير مباشر
من جانبها، قالت سهر الماطي الخبيرة المصرفية إن تحويلات المصريين بالخارج لا تمثل فقط تدفقًا نقديًا، بل هي أيضًا أداة سياسية واقتصادية في وجه الضغوط الدولية، موضحة أن الدولة استطاعت من خلال هذه التحويلات الحفاظ على جزء كبير من استقرارها المالي دون اللجوء المفرط للاقتراض.
وأضافت أن بعد 2016، التحويلات زادت تدريجيًا، ومع كل أزمة عالمية كانت تثبت أنها المورد الأكثر أمانًا وثباتًا. وهذا يعكس قوة العلاقة بين المغترب المصري وبلده، خاصة عندما يشعر أن أمواله تذهب إلى قنوات آمنة وتحظى بالتقدير”.
وأكدت الماطي أن من مميزات التحويلات أنها لا ترد أو تُسترجع مثل القروض أو الاستثمارات الأجنبية الساخنة، وبالتالي فهي أكثر استدامة واستقرارًا، وهو ما يميزها عن باقي مصادر النقد الأجنبي.
وتابعت: للحفاظ على هذا المورد الحيوي، يجب تقديم المزيد من الحوافز للمغتربين، سواء عبر أدوات مالية مبتكرة، أو تسهيلات في الاستثمار داخل مصر، وربما امتيازات خدمية ترتبط بالتحويلات المنتظمة.
رصدت «المحروسة» خلال تحليلها للمشهد الاقتصادي، تطورًا ملحوظًا في سلوك المصريين بالخارج فيما يخص تحويلاتهم المالية، حيث تبين من تتبع المؤشرات :
ثقة المصريين في البنوك تترجم إلى مليارات الدولارات سنويًا :
تحويلات المصريين بالخارج تمثل اليوم أحد أهم مصادر العملة الأجنبية في مصر، إلى جانب الصادرات، والسياحة، وقناة السويس. لكنها تمتاز بخصوصية فريدة، فهي لا تخضع لمواسم أو تقلبات دولية بنفس الحدة، بل تعتمد على العامل البشري وروح الانتماء والولاء للوطن.
منذ عام 2016، أدركت الدولة أهمية هذا المورد، وعملت على غلق الفجوة بين السعر الرسمي والموازي للعملات، وهو ما أدى إلى تحويل جزء كبير من التحويلات من السوق السوداء إلى البنوك، مما وفر للدولة مليارات الدولارات، وساهم في تعزيز احتياطي النقد الأجنبي، وتحقيق توازن أفضل في ميزان المدفوعات.
تحسين الخدمات المصرفية.. بوابة جذب التحويلات :
لم يقتصر دور الدولة على الإجراءات النقدية فقط، بل قامت البنوك المصرية بتحديث وتطوير خدماتها الإلكترونية والمصرفية لتناسب طبيعة المغتربين المصريين، سواء في الخليج أو أوروبا أو الأمريكتين.
أُطلقت تطبيقات تحويل رقمية، وتم توفير شهادات ادخار دولارية مخصصة للمصريين بالخارج بعوائد مجزية، إلى جانب تسهيلات في فتح الحسابات وإجراء التحويلات بسهولة وأمان.
كل ذلك ساهم في تعزيز ثقة المصريين بالخارج، ودفعهم لاستخدام القنوات الرسمية بدلًا من السوق الموازية أو الطرق غير المضمونة.
استشراف المستقبل
خلال 9 سنوات، أثبتت تحويلات المصريين بالخارج أنها أكثر من مجرد دخل نقدي، بل أصبحت خط دفاع اقتصادي ثابت، وشاهد على نجاح السياسات النقدية في استعادة ثقة المواطنين بالخارج.
ومع استمرار التحديات العالمية، تزداد أهمية هذا المورد، مما يتطلب من الدولة مزيدًا من المرونة في التعامل مع ملف المغتربين، وتوفير أدوات جذب جديدة، لضمان استمرار تدفق التحويلات، كجزء أصيل من الاستراتيجية القومية للاقتصاد المصري