في عالم يتغير بسرعة وتتسارع فيه وتيرة الابتكارات التكنولوجية، لم تعد الجرائم المالية تسير بالأساليب التقليدية، بل باتت تستغل الأدوات الرقمية الحديثة للتحايل على القوانين والأنظمة المصرفية، ومع تصاعد مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، أدرك البنك المركزي المصري أن المواجهة لا يمكن أن تعتمد فقط على القوانين أو المراجعة اليدوية، وإنما تحتاج إلى سلاح أكثر تطورًا على سبيل المثال الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح اليوم أداة حاسمة لكشف الأنماط الخفية والتصدي للمعاملات المشبوهة قبل وقوعها.
اعتمد البنك المركزي خلال السنوات الأخيرة أنظمة تحليل ذكية قادرة على تتبع ملايين المعاملات المالية اليومية بشكل لحظي، هذه الأنظمة لا تكتفي بتسجيل البيانات، بل تقوم بتحليلها وفق خوارزميات متطورة تتيح لها التعرف على الأنماط غير المعتادة، مثل التحويلات المتكررة بمبالغ صغيرة لتفادي الرقابة التقليدية، أو التحركات المالية المفاجئة بين حسابات مرتبطة بجهات مشبوهة.
التعلم الآلي لكشف السلوكيات المشبوهة
أحد أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي هو التعلم الآلي، حيث يتم تدريب الأنظمة على بيانات سابقة لعمليات ثبت ارتباطها بغسل الأموال أو تمويل الإرهاب، ومع مرور الوقت، تصبح هذه الأنظمة أكثر قدرة على توقع السلوكيات الخطرة حتى لو اتخذت أشكالًا جديدة.
فعلى سبيل المثال، إذا حاولت شبكة إجرامية استخدام شركات واجهة أو متاجر إلكترونية كغطاء، يستطيع النظام الذكي رصد التباين بين حجم التدفقات المالية والأنشطة الفعلية، مما يثير إنذارًا مبكرًا قبل وقوع الجريمة.
شهادة مصرفية: التكنولوجيا في خط المواجهة
وفي هذا السياق،قال رئيس قطاع التكنولوجيا بأحد البنوك الكبرى، إن قواعد اللعبة في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب قد تغيرت موضحا أنه لم يعد الاعتماد فقط على الموظف البشري أو المراجعة اليدوية للمعاملات كافيًا.
وأضاف في تصريحات صحفية لموقع «المحروسة» أن البنوك بات لديعا أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل ملايين العمليات في وقت قياسي، مع تحديد درجة الخطورة لكل معاملة على حدة.
وأشار إلى أن الأنظمة الذكية تعمل بطريقة تشبه عمل العقل البشري لكنها أسرع وأدق. فهي تتعلم باستمرار من الأنماط السابقة وتطور قدراتها لكشف الأساليب الجديدة التي يستخدمها المجرمون الماليون لافتا أن هذا يجعل قدرة البنوك على اكتشاف أي تحركات مشبوهة أكبر بكثير مما كان متاحًا قبل سنوات قليلة.
وأكد المسؤول المصرفي أن هذه التكنولوجيا وفرت للبنوك عنصرًا بالغ الأهمية وهو الإنذار المبكر، موضحًا قبل أن تكتمل عملية غسل الأموال أو تصل الأموال إلى جهات مشبوهة، تكون الأنظمة قد رصدت التحرك ورفعت تقريرًا فوريًا إلى وحدات الامتثال والرقابة بالبنك، ومنها إلى وحدة مكافحة غسل الأموال بالبنك المركزي.
التعاون الدولي وتبادل البيانات
وأكد أت البنك المركزي يدرك أن الجرائم المالية عابرة للحدود، لذلك يعمل على دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن شبكة تعاون دولية تشمل البنوك المركزية والجهات الرقابية العالمية. هذا التعاون يسمح بتبادل المعلومات حول الحسابات والكيانات المشبوهة، وربطها بخوارزميات تحليلية تكشف الترابطات غير المرئية بين الأطراف، وهو ما يضيق الخناق على المنظمات الإرهابية التي تعتمد على التحويلات الدولية.
دعم القطاع المصرفي المحلي
ولفت إلى أن لم يقتصر دور البنك المركزي على تبني التكنولوجيا داخل منظومته فقط، بل ألزم البنوك العاملة في السوق المصري بتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لمكافحة غسل الأموال، مشيرا أنه قد وفر التدريب والتشريعات الداعمة لتأهيل الكوادر البشرية على استخدام هذه الأدوات، مع التأكيد على ضرورة تحديث قواعد البيانات بشكل دوري وربطها بقوائم سوداء محلية وعالمية.
توقع أن المرحلة المقبلة ستشهد دمج الذكاء الاصطناعي مع تقنيات أخرى مثل البلوك تشين والتحليل التنبؤي لزيادة فعالية الرقابة، ما يجعل من الصعب على المجرمين الماليين إيجاد ثغرات جديدة. كما أن التوجه نحو استخدام “الذكاء الاصطناعي التوضيحي” سيعزز الشفافية، حيث يتمكن المراقبون من فهم القرارات التي تصدرها الأنظمة الذكية.
وأختتم أن استخدام البنك المركزي للذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية، بل ضرورة استراتيجية لحماية النظام المالي المصري من أخطر التهديدات لاسيما أن بينما يسعى المجرمون لتطوير أساليبهم باستمرار، يبني البنك المركزي جدارًا تكنولوجيًا ذكيًا يضمن استباق المخاطر، ويحافظ على استقرار الاقتصاد الوطني.