يُنظر إلى صناعة الدواء على أنها واحدة من أهم الصناعات الاستراتيجية في أي دولة، ليس فقط لارتباطها المباشر بصحة المواطن، ولكن أيضًا لدورها الاقتصادي كقطاع قادر على جذب الاستثمارات وتوفير العملة الصعبة ودعم خطط التنمية.
وفي مصر، التي تمتلك سوقًا دوائية يُقدر حجمه بأكثر من 170 مليار جنيه سنويًا، تتجه الأنظار نحو خطة حكومية طموحة تستهدف جذب استثمارات تصل إلى 350 مليار جنيه خلال السنوات الخمس المقبلة، في محاولة لإعادة رسم خريطة القطاع وتحويله إلى قاطرة رئيسية للاقتصاد.
حجم السوق المحلي
يُعد السوق المصري من أكبر أسواق الدواء في المنطقة العربية والأفريقية، إذ يضم أكثر من 150 مصنعًا و20 ألف خط إنتاج، تغطي قرابة 92% من احتياجات المصريين الدوائية. لكن رغم هذا الحجم، لا تزال مصر تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد المواد الخام من الخارج، بنسبة تتراوح بين 85 و90%، أغلبها من الهند والصين.
ويؤكد خبراء أن هذا الاعتماد يشكل تحديًا كبيرًا أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي، ويجعل السوق المحلية عرضة لتقلبات الأسعار العالمية وأزمات سلاسل الإمداد، مثلما حدث خلال جائحة كورونا التي كشفت هشاشة منظومة الاعتماد على الخارج.
ملامح الخطة الحكومية
وأوضح الخبراء في تصريحات خاصة لموقع «المحروسة» أن الخطة التي أعلنتها وزارة الصحة بالتعاون مع هيئة الاستثمار تستند إلى عدة محاور رئيسية أبرزها تعميق التصنيع المحلي: التركيز على إنتاج المواد الخام محليًا لتقليل الاعتماد على الاستيراد، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية من خلال حوافز ضريبية وضمانات لتسهيل دخول الشركات العالمية، لاسيما أن زيادة الصادرات رفع قيمة صادرات الدواء من 850 مليون دولار حاليًا إلى 5 مليارات دولار سنويًا بحلول 2030، و البحث العلمي والابتكار: دعم الشراكات مع الجامعات ومراكز الأبحاث لتطوير أدوية جديدة.
وأشارو إلى أن افتتحت الحكومة قبل أعوام مدينة الدواء المصرية في العاشر من رمضان كأحد أكبر الصروح الدوائية في الشرق الأوسط. وتضم المدينة خطوط إنتاج متطورة للأدوية الحيوية والمستحضرات المتقدمة التي كانت تستورد بالكامل من الخارج.
مدينة الدواء المصرية: الحلم الكبير
وبحسب مسؤولين بوزارة الصحة، تمثل المدينة ركيزة أساسية في خطة الاكتفاء الذاتي، حيث تُسهم في توفير أدوية كانت تكلف الدولة مئات الملايين من الدولارات سنويًا، فضلًا عن فتح المجال أمام التعاون مع شركات عالمية لنقل التكنولوجيا وزيادة فرص التصدير.
وأوضحت المصادر أن القطاع الدوائي لا يُنظر إليه فقط من منظور صحي، بل باعتباره محركًا اقتصاديًا مهمًا، منها توفير العملة الصعبة وتقليل الاستيراد من الخارج يخفض الضغط على ميزان المدفوعات، مشيرين إلى جذب استثمارات أجنبية بهدف اقتناص 350 مليار جنيه خلال 5 سنوات.
وأكدت أن القطاع قادر على خلق عشرات الآلاف من الوظائف المباشرة وغير المباشرة، مضيفين أن الاتجاه لفتح أسواق جديدة في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.
وأشارت المصادرأن القرار المرتقب لتسعير الأدوية سيعطي مرونة لهيئة الدواء المصرية للسماح بتحريك الأسعار حال تغيّر التكلفة أو زيادة سعر الدولار خلال فترة زمنية محددة، وهذا الأمر لا يعني أن أي تغيّر في سعر الدولار بقيمة 10 قروش سيتبعه تغيير للأسعار، بل سيتم تحديد نسبة مئوية لزيادة الدولار واستمرار هذه الزيادة لفترة زمنية محددة للسماح برفع الأسعار بنسبة تعادل، دون الحاجة للانتظار لوقتٍ طويل كما هو الوضع حاليًا.
وأضافت أن النظام الجديد لتسعير الدواء سيكون مرنًا إزاء أي تغيّر في سعر الصرف وعناصر التكلفة الرئيسية لتصنيع الدواء، مقارنة بقرار 499 الذي ينظم عمليات التسعير الجبري للدواء في مصر حاليًا.
ومن جهه أخرى قال الدكتور محمد عبد الغني، خبير الصناعات الدوائية، الفرصة متاحة أمام مصر لتكون مركزًا إقليميًا لإنتاج وتصدير الدواء، لكن النجاح يتوقف على الاستثمار الجاد في إنتاج المواد الخام الحيوية، لأن استمرار استيرادها بهذا الحجم يجعلنا في موقف ضعيف أمام أي أزمة عالمية.
وأضاف أن المطلوب أيضًا تيسير إجراءات تسجيل الأدوية الجديدة، وإعطاء الشركات المحلية فرصًا أكبر في المناقصات الحكومية، حتى تستطيع المنافسة والاستمرار.
وفي ذات السياق قال جمال الليثي رئيس غرفة صناعة الأدوية باتحاد الصناعات المصرية، ، إن مصر تستهدف جذب استثمارات بقيمة 350 مليار جنيه في قطاع الدواء خلال 5 سنوات.
وأضاف الليثي في تصريحات صحافية، اليوم الاثنين، أن الاستثمارات المستهدفة سترفع عدد المصانع في مصر من 180 إلى 250 مصنعا بحلول 2030.
وتوقع الليثي أن تكون نصف الاستثمارات المرتقبة في قطاع الدواء أجنبية، خاصة مع تزايد اهتمام صناديق الاستثمار العالمية بالقطاع.
في أبريل الماضي، قال ياسين رجائي مساعد رئيس هيئة الدواء المصرية، في تصريحات صحفية سابقة إن الهيئة تجري تحديثًا على آليات التسعير الجبري للدواء في مصر خلال الفترة الحالية، استعدادًا لاعتماده قبل نهاية العام الحالي.
التحديات القائمة
رغم الطموحات الكبيرة، يواجه القطاع عدة تحديات:
ارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب زيادة أسعار الطاقة والمواد الخام.
البيروقراطية في تسجيل الأدوية والمستحضرات الجديدة.
المنافسة الخارجية في أسواق التصدير.
ضعف الإنفاق على البحث العلمي مقارنة بالدول المنافسة.
تأخر سداد مستحقات بعض الشركات لدى هيئات حكومية.
—
تجارب دولية ملهمة
الهند: نجحت في أن تصبح “صيدلية العالم” من خلال الاستثمار في المواد الخام أولاً.
تركيا: طبقت سياسة صارمة لدعم التصنيع المحلي وخفض الاعتماد على الاستيراد.
البرازيل: اعتمدت على شراكات مع شركات عالمية لنقل التكنولوجيا وإنتاج الأدوية الحيوية.
ويؤكد خبراء أن مصر تستطيع الاستفادة من هذه التجارب عبر بناء شراكات قوية مع الشركات العالمية، مع التركيز على التدريب ونقل التكنولوجيا.
—
التصدير إلى أفريقيا
القارة الأفريقية تمثل سوقًا واعدًا أمام الدواء المصري. فبحسب تقديرات البنك الأفريقي للتنمية، تصل فاتورة استيراد الدواء في أفريقيا إلى أكثر من 20 مليار دولار سنويًا. وهنا ترى الحكومة أن مصر مؤهلة لتكون مركزًا رئيسيًا لتلبية هذه الاحتياجات، خاصة مع قربها الجغرافي وتوقيع اتفاقيات تجارة حرة مع العديد من الدول الأفريقية.
القطاع الخاص شريك أساسي
لا يمكن للحكومة وحدها أن تحقق الطموحات المعلنة. فالقطاع الخاص، الذي يملك أكثر من 70% من خطوط الإنتاج في مصر، هو اللاعب الأساسي في تنفيذ الخطة. ويؤكد ممثلو شركات الأدوية أن هناك استعدادًا كاملًا للتوسع والاستثمار، لكن بشرط وجود حوافز واضحة وتشريعات مستقرة.
الآفاق المستقبلية
إذا ما نجحت الخطة في جذب استثمارات بـ 350 مليار جنيه، فإن مصر ستكون أمام صناعة دوائية متكاملة قادرة على تلبية السوق المحلي، وتصدير منتجاتها إلى الخارج بجودة عالية وأسعار تنافسية. وهو ما يعني تحقيق أمن دوائي داخلي، وتعزيز مكانة مصر إقليميًا وعالميًا.
يبقى السؤال: هل تستطيع مصر أن تتحول إلى “الهند الجديدة” في صناعة الأدوية خلال عقد من الزمن؟
الإجابة ستتوقف على مدى جدية التنفيذ، والقدرة على مواجهة التحديات، والاستثمار في العقول والبحث العلمي. لكن المؤكد أن مصر بدأت السير في الطريق الصحيح بخطة واضحة ورؤية طموحة، وإذا ما تم الالتزام بها، فإن قطاع الأدوية قد يصبح بالفعل قاطرة جديدة للاقتصاد الوطني.