في خطوة تعكس توجه الدولة نحو تعميق الشمول المالي وتوسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات المصرفية، أصدر البنك المركزي المصري قرارًا بالسماح للبنوك بإنشاء وحدات خارج الفروع التقليدية لتقديم خدماتها للجمهور.
القرار الذي يُنتظر أن يحدث طفرة في طريقة تعامل المصريين مع الجهاز المصرفي، يفتح الباب أمام انتشار وحدات صغيرة ومرنة داخل المولات التجارية، الجامعات، محطات القطار، وحتى في القرى والمراكز البعيدة.
هذه الخطوة، التي جاءت بعد دراسات طويلة لاحتياجات السوق المحلي، لا تقتصر على تسهيل الإجراءات البنكية، بل تستهدف أيضًا ضم ملايين المواطنين إلى النظام المالي الرسمي وتقليل الاعتماد على الاقتصاد غير الرسمي.
ما الذي يعنيه القرار؟
السماح بإنشاء وحدات خارج الفروع يعني أن البنوك لن تظل حبيسة المقرات الكبيرة المكلفة، بل يمكنها التواجد من خلال مكاتب صغيرة أو أكشاك مصرفية مجهزة تقنيًا لتقديم معظم الخدمات الأساسية مثل:
فتح الحسابات الجارية والتوفير.
إصدار البطاقات البنكية.
استقبال طلبات القروض البسيطة والمتوسطة.
خدمات السحب والإيداع والتحويل.
الاستعلام عن الحسابات وخدمات العملاء.
هذه الوحدات، التي قد لا يتجاوز حجمها عشرات الأمتار، ستكون أقرب للمواطن من أي وقت مضى، وتكسر الصورة النمطية عن البنك ككيان ضخم لا يمكن الوصول إليه إلا في المدن الكبرى.
خلفيات القرار.. لماذا الآن؟
جاء قرار البنك المركزي في ظل مجموعة من التحديات والفرص:
1. الشمول المالي: أكثر من 40% من المصريين لا يمتلكون حسابًا مصرفيًا، والوحدات المصرفية الجديدة تعتبر وسيلة للوصول إليهم.
2. التحول الرقمي: تزايد الاعتماد على الخدمات الإلكترونية تطلّب وجود نقاط دعم ميدانية قريبة من المواطنين.
3. تكلفة الفروع التقليدية: إنشاء فرع بنكي كامل يتطلب استثمارات ضخمة، بينما الوحدة المصرفية أقل تكلفة بعشرات المرات.
4. التجارب العالمية: دول عديدة مثل الهند وكينيا طبقت نموذج الوحدات المصرفية وحققت نجاحًا لافتًا في توسيع قاعدة العملاء.
البنوك تتحرك.. خطط واستعدادات
بمجرد صدور القرار، بدأت البنوك في وضع استراتيجيات لانتشار هذه الوحدات بعض البنوك الكبرى أعلنت نيتها افتتاح وحدات في الجامعات الكبرى لجذب شريحة الشباب، بينما تفكر بنوك أخرى في التواجد بالمناطق الصناعية لخدمة العمال وأصحاب الورش.
مسؤول بأحد البنوك الحكومية قال لموقع «المحروسة»، إننا نخطط لإطلاق 200 وحدة خلال العامين القادمين، سنركز فيها على القرى والمراكز التي لا يوجد بها فروع بنكية. الهدف ليس فقط الربح، بل تحقيق رسالة وطنية في دعم الشمول المالي
وأوضح أن الوحدات المصرفية الصغيرة هي المستقبل، لأنها تقلل التكاليف وتصل بالخدمات إلى شريحة لم تصل إليها البنوك من قبل مضيفا أن إذا نجحت التجربة، ستغير شكل القطاع المصرفي في مصر خلال 10 سنوات.
وحذر إذا لم يتم تدريب الموظفين جيدًا وتوفير البنية التكنولوجية اللازمة، قد تتحول الوحدات إلى عبء على البنوك بدلًا من أن تكون حلًا.
المواطنون بين الترقب والتجربة
المواطن المصري هو المستفيد الأول من القرار، لكن ردود الأفعال جاءت متباينة:
الشباب: رحبوا بالقرار لأنه يسهل عليهم فتح حسابات واستلام الكروت المصرفية دون مشقة.
الكبار: بعضهم ما زال متخوفًا من التعامل مع وحدات صغيرة، ويشعر أن “البنك الكبير” أكثر أمانًا.
التجار وأصحاب الورش: وجدوا في القرار فرصة لتقليل وقتهم الضائع في التنقل إلى الفروع البعيدة.
أحمد عبد الغني، صاحب ورشة في إحدى قرى المنوفية، يقول: “كنت أقطع مسافة 20 كم لأودع إيراد اليوم في الفرع الرئيسي، الآن لو فتحت وحدة قريبة سيوفر علي وقت ومصاريف انتقال.”
خامسًا: تأثيرات اقتصادية واسعة
القرار لا يقف عند حدود الخدمة المصرفية فقط، بل له انعكاسات اقتصادية مهمة:
1. زيادة حجم الودائع: مع سهولة فتح الحسابات، ستتدفق أموال أكبر من الاقتصاد غير الرسمي إلى الجهاز المصرفي.
2. تشجيع المشروعات الصغيرة: الوحدات ستتيح خدمات تمويلية سريعة لأصحاب المشاريع البسيطة.
3. تعزيز التحول الرقمي: الوحدات ستكون نقطة انطلاق لنشر الثقافة المصرفية الإلكترونية.
4. خلق فرص عمل: إنشاء وتشغيل هذه الوحدات سيولد وظائف جديدة للشباب.
التحديات التي تواجه التجربة
رغم المكاسب الكبيرة، إلا أن هناك تحديات لا يمكن تجاهلها:
الأمان: كيف سيتم تأمين هذه الوحدات من السرقات أو الاحتيال؟
التكنولوجيا: ضرورة وجود أنظمة قوية لحماية البيانات من الاختراق.
الثقة: إقناع المواطنين أن الوحدة المصرفية مثلها مثل الفرع الرئيسي في الموثوقية.
التكلفة التشغيلية: رغم انخفاضها مقارنة بالفروع، إلا أن البنوك تحتاج لإدارة فعّالة لضمان جدواها الاقتصادية.
التجارب الدولية.. دروس مستفادة
الهند: أطلقت ما يُعرف بـ”بنوك الكشك” داخل القرى، مما ساعدها على رفع نسبة الشمول المالي بشكل قياسي.
كينيا: اعتمدت على وحدات صغيرة وخدمات المحمول (M-Pesa)، حتى أصبحت نموذجًا عالميًا.
الإمارات: انتشرت “الأكشاك المصرفية الذكية” في المولات والمطارات، ونجحت في خدمة ملايين العملاء.
هذه النماذج تقدم لمصر خبرة جاهزة يمكن الاستفادة منها مع مراعاة خصوصية السوق المحلي.
المستقبل.. نحو مصرف بلا جدران
مع تطبيق القرار، قد نكون أمام مرحلة جديدة يُعاد فيها تعريف البنك، ليس كمبنى ضخم بل كخدمة متاحة في كل مكان.
اليوم وحدة صغيرة في مول.
غدًا جهاز ذكي في محطة مترو.
وبعد غدًا بنك كامل على الهاتف المحمول.
المسار واضح: النظام المصرفي يتجه ليكون جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للمواطن.
خطوة في الطريق الصحيح
قرار البنك المركزي بالسماح بإنشاء وحدات خارج الفروع يمثل نقلة نوعية في مسيرة الشمول المالي والتحول الرقمي في مصر. نجاح التجربة مرهون بمدى التزام البنوك بالجودة، ووعي المواطنين بأهمية التعامل مع الجهاز المصرفي، ودور الدولة في الرقابة والدعم.
قد تكون هذه الوحدات الصغيرة بداية لثورة مصرفية كبيرة تغير طريقة تعامل المصريين مع أموالهم، وتفتح الباب أمام جيل جديد يرى في البنك صديقًا يوميًا لا مؤسسة بعيدة المنال.