منذ أن خرج إلى النور عام 1944 عقب مؤتمر بريتون وودز، ظل صندوق النقد الدولي مثارًا للجدل؛ إذ يراه البعض “شبكة أمان اقتصادية” للدول المتعثرة، بينما يعتبره آخرون “أداة استعمار مالي” بواجهة إنقاذية.
وبين هذين الموقفين، تتأرجح تجارب عشرات الدول، لاسيما في أفريقيا والعالم العربي، التي وجدت نفسها أمام معادلة صعبة، الحصول على التمويل مقابل التنازل عن جزء من استقلال قرارها الاقتصادي.
كيف يعمل الصندوق؟
يمتلك الصندوق أكثر من تريليون دولار يمكنه ضخها عبر، الحصص وهي مساهمات الأعضاء التي تعكس حجم اقتصاد كل دولة بجانب القروض وهي التي تُمنح غالبًا بشروط إصلاحية.
كما أن لديه أداة خاصة هي حقوق السحب الخاصة (SDR)، التي تمثل أصلًا احتياطيًا دوليًا لمواجهة الأزمات، وتُراجع قيمتها كل 5 سنوات بناءً على سلة عملات عالمية.
المشروطية.. الوجه الأكثر جدلًا
لا يقتصر الصندوق على تقديم التمويل، بل يربطه دائمًا بحزمة سياسات، من أبرزها تعويم سعر الصرف، تقليص الدعم الحكومي،الخصخصة وفتح الأسواق.
بينما يصفها مؤيدوه بـ”الإصلاحات الضرورية”، يراها معارضوه وصفة موحدة تُضعف الاقتصادات الوطنية وتعمّق أزماتها الاجتماعية.
الاستعمار المالي.. اتهام يتجدد
يؤكد منتقدو الصندوق أن الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى تستخدمه كأداة للهيمنة، عبر،افتعال أو استغلال الأزمات،فرض وصفات نيوليبرالية تخدم رأس المال العالمي، السيطرة على قرارات الدول الاقتصادية.
وتعد تجارب أمريكا اللاتينية في الثمانينيات أبرز شاهد، حيث أغرقتها برامج الصندوق في فخ المديونية لعقود طويلة.
خريطة الديون: أرقام تكشف حجم التبعية
بحسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي 2024، بلغ الدين العالمي أكثر من 100 تريليون دولار. وتصدرت الولايات المتحدة الأمريكية القائمة كأكثر دول العالم مديونية، بدين تجاوز 36.1 تريليون دولار، تلتها الصين التي سجلت 16.5 تريليون، ثم اليابان بنحو 10.2 تريليونات دولار. أما في أوروبا، فقد جاءت المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا بديون تتراوح بين 3 و3.7 تريليونات، بينما احتلت الهند المرتبة السابعة عالميًا بديون بلغت 3.2 تريليونات، تلتها ألمانيا عند 2.95 تريليون، وكندا بـ 2.35 تريليون، في حين أغلقت البرازيل قائمة العشرة الكبار بـ 1.9 تريليون دولار.
وعربيًا، تصدرت مصر المشهد كأكثر الدول مديونية بدين بلغ 345.5 مليار دولار، تلتها السعودية عند 311.5 مليار، ثم الإمارات بنحو 171.1 مليار. وفي المراتب التالية جاء العراق بـ 121.2 مليار دولار، والجزائر بـ 118.9 مليار، ثم المغرب التي سجلت 107.9 مليارات. كما دخلت السودان القائمة بديون بلغت 102.6 مليار، وتلتها قطر عند 91.2 مليار، ثم البحرين بـ 60.6 مليار، وأخيرًا الأردن بـ 48.9 مليار دولار.
هذه الأرقام تعكس حجم الاعتماد المتزايد على التمويل الخارجي، وتجعل شهادة الصندوق معيارًا رئيسيًا لتقييم الجدارة الائتمانية عالميًا.
تجارب حية.. من الأرجنتين إلى مصر
الأرجنتين: أكثر من مرة لجأت إلى الصندوق، لكنها دخلت في دوامة مديونية وأزمات متكررة.
مصر: حصلت على قروض في 2016 و2022، ساعدت على الاستقرار المالي لكنها رفعت الأسعار بشكل حاد وأثارت جدلًا اجتماعيًا.
أفريقيا جنوب الصحراء: طبّقت برامج التكيف الهيكلي في التسعينيات، ما أدى إلى تفاقم معدلات الفقر والبطالة.
رؤيتان متناقضتان
المؤيدون: يعتبرون الصندوق ضرورة لحماية النظام المالي العالمي وضمان التدفقات النقدية وقت الأزمات.
المعارضون: يرون أنه أداة لتكريس التبعية، وأن مشروطياته لا تراعي الخصوصية الاجتماعية للدول.
مستقبل الصندوق: على مفترق طرق
مع صعود قوى اقتصادية جديدة كالصين والهند، ومع تزايد الانتقادات، يجد الصندوق نفسه أمام ثلاثة تحديات كبرى، إصلاح نظام الحصص ليعكس التحولات في الاقتصاد العالمي، و إعادة النظر في الشروط لتكون أكثر عدالة اجتماعية، بالإضافة إلى تعزيز الشفافية وتجنب اتهامات الكيل بمكيالين.