في وعي المصريين، ارتبط التعليم دومًا بفكرة «الطريق إلى المستقبل»، لم يكن مجرد خدمة اجتماعية، بل أداة للترقي الطبقي وبناء جيل جديد يحمل مشروع الأمة.
وحين رفعت مصر شعار «التعليم حق للجميع» منتصف القرن العشرين، اعتبره كثيرون خطوة فارقة في تحقيق العدالة الاجتماعية لكن ما بين القرارات الطموحة والواقع المعقد، نشأت فجوة اتسعت بمرور العقود، لتضع المجتمع أمام معادلة صعبة، مدارس حكومية مجانية لكن متعثرة، ومدارس خاصة باهظة الثمن، تتسع رقعتها يومًا بعد يوم.
الجذور التاريخية.. من الملكية إلى الجمهورية
البداية تعود إلى عام 1944، حين أصدر أحمد نجيب الهلالي وزير المعارف بمشاركة طه حسين كمستشار فني قرارًا بأن يكون التعليم الابتدائي مجانيًا للجميع. كان هذا التحول أول اعتراف رسمي بحق الطفل المصري في التعلم دون رسوم، وهو ما مثّل حينها نقلة نوعية في فكر الدولة الحديثة.
بعدها بست سنوات، وتحديدًا في عام 1950، توسع القرار ليشمل التعليم الثانوي والفني، على يد طه حسين وهو وزير للمعارف. رفع الرجل شعارًا خالدًا: «التعليم كالماء والهواء»، في إشارة إلى أنه حق طبيعي لا يجوز حجبه.
الخطوة الثالثة والأوسع جاءت في 26 يوليو 1962، مع إعلان الرئيس جمال عبد الناصر مجانية التعليم في جميع مراحله حتى الجامعي، باعتباره حجر زاوية في مشروعه الاجتماعي. لم يكن هذا القرار تعليميًا فحسب، بل سياسيًا يعكس رغبة الدولة في تمكين الفقراء وبناء طبقة وسطى جديدة.
المشهد وقتها،، ماذا تقول الأرقام؟
حين صدر قرار مجانية التعليم الابتدائي عام 1944، كان عدد المدارس الابتدائية في مصر حوالي 5,338 مدرسة فقط، منها 1,137 مدرسة أهلية.
أما عدد المدارس الثانوية فكان متواضعًا للغاية، إذ لم يتجاوز 127 مدرسة على مستوى الجمهورية، أكثر من نصفها مدارس خاصة.
وبحلول 1952، قبيل ثورة يوليو، أظهرت بعض الإحصاءات أن إجمالي المدارس لم يتجاوز 4,800 مدرسة، وهو رقم يعكس محدودية البنية التحتية في مواجهة موجة الإقبال الشعبي على التعليم. هذا التناقض بين القرارات الطموحة والواقع المحدود صنع تحديًا سيستمر لعقود لاحقة.
مجانية التعليم.. الطموح يتعثر في التفاصيل
على الورق، بدت مجانية التعليم كأنها انتصار تاريخي، لكن على الأرض، تكدست الفصول بعشرات التلاميذ، حتى تجاوزت الكثافة أحيانًا 60 تلميذًا في الصف الواحد.
المدارس في الريف كانت تعاني من نقص المعلمين والكتب، والمدن الكبرى بدورها لم تسلم من التكدس.
أحد المعلمين القدامى، الذي خدم في مدرسة حكومية منذ الستينيات، يقول:«كنا نعمل بحماس، لكن الإمكانيات كانت محدودة، الدولة لم تستطع أن توفّر ما يتناسب مع الأعداد المتزايدة».
مع ضعف الرواتب، تحولت الدروس الخصوصية إلى بديل غير رسمي، تقوض فكرة المجانية، أصبحت الأسر تدفع من جديد، لكن هذه المرة خارج إطار المدرسة.
صعود المدارس الخاصة.. البديل يتحول إلى سوق
مع مرور الوقت، بدأت المدارس الخاصة تفرض نفسها كخيار أمام الأسر القادرة، في البداية، كان انتشارها محدودًا في المدن الكبرى، لكن مع الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات وتزايد الطلب على تعليم أفضل، توسع القطاع بشكل لافت.
اليوم، يقدم القطاع الخاص مناهج متنوعة (لغات، دولية، مزدوجة) مع أنشطة رياضية وثقافية، تجعل الأسر ترى فيه «استثمارًا في المستقبل»، حتى وإن كانت المصروفات تفوق قدراتها.
أحد مؤسسي المدارس الخاصة في القاهرة الجديدة يقول: «لم نجبر أحدًا على الحضور الأهالي هم من يبحثون عن مستوى مختلف، حتى لو اضطروا للاستدانة».
وهكذا، أصبح التعليم الخاص ليس فقط بديلًا، بل سوقًا ضخمة تُحدد الأسعار فيه وفقًا للمكانة الاجتماعية والقدرة المالية.
شهادات من قلب الأزمة
أولياء الأمور:
قالت سيدة من الطبقة المتوسطة: «كنت أتمنى أن أولادي تلتحق بمدارس حكومية كما فعلنا نحن، لكن الواقع أجبرني على الخاصة، حتى لا يضيع مستقبلهم».
المعلمون:
يشكون المعلمون من ضغط الكثافة وضعف الأجور، أحدهم يعلق أن مجانية التعليم تعني أن الطالب يدخل بلا رسوم، لكن الحقيقة أن المعلم يدفع الثمن.
بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تُظهر أن المدارس الخاصة تضاعفت خلال العقدين الأخيرين، خصوصًا في القاهرة الكبرى والإسكندرية، في المقابل، لا تزال المدارس الحكومية تتحمل أكثر من 80% من إجمالي الطلاب، رغم تراجع التمويل النسبي الموجه للتعليم.
بين المجانية والتمييز.. أي مستقبل للتعليم في مصر؟
اليوم، يقف الطالب المصري أمام خيار صعب،إما تعليم مجاني رسمي، محدود الموارد والجودة، أو تعليم خاص يستهلك موارد الأسرة، لكنه يوفر جودة نسبي.
المعادلة خلقت تمييزًا طبقيًا جديدًا، حيث أصبح مستقبل الطالب مرهونًا بقدرة الأسرة المالية، في تناقض صارخ مع روح القرارات الأولى في 1944 و1950 و1962.