على مدار عقد كامل، خاض الاقتصاد المصري واحدة من أكثر المراحل تعقيدًا في تاريخه الحديث، حيث تداخلت الأزمات السياسية والتغيرات العالمية مع موجات إصلاح داخلي حادة، وكان الاحتياطي النقدي الأجنبي أحد أبرز المؤشرات التي عكست حالة الاقتصاد وتوجهاته.
ففي عام 2015، كان صافي الاحتياطي النقدي يعاني من هبوط حاد، متأثرًا بتراجع موارد الدولة من العملات الأجنبية، خاصة مع استمرار تبعات ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وضعف الاستثمارات الأجنبية، وتراجع السياحة، وتراجع حركة قناة السويس، وهو ما جعل الاحتياطي ينخفض إلى نحو 16.4 مليار دولار فقط في منتصف 2015.
نقطة التحول: التعويم والإصلاح الاقتصادي (2016 – 2019)
مع بداية ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسي الأولى، بدأت الدولة في صياغة برنامج إصلاحي واسع بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وتحديدًا في نوفمبر 2016 حين اتخذت مصر القرار التاريخي بتحرير سعر صرف الجنيه، وهو القرار الذي مثل نقطة تحول فارقة.
ورغم تداعياته الاجتماعية في البداية، فقد ساهم التعويم في جذب التدفقات النقدية الدولية، وسمح بإعادة بناء الثقة في الاقتصاد المصري، مما دفع الاحتياطي للارتفاع إلى أكثر من 36 مليار دولار في 2017، واستمر النمو حتى تجاوز 45.5 مليار دولار بنهاية 2019، وهو أعلى رقم في تاريخ مصر حينها.
وشهدت تلك الفترة استقرارًا نسبيًا في سعر الصرف، وتدفقات قوية من الاستثمار الأجنبي غير المباشر، وزيادة ملحوظة في تحويلات العاملين بالخارج، وتعافي قطاع السياحة، ما منح البنك المركزي فرصة لتكوين غطاء نقدي آمن يغطي أكثر من 8 أشهر من الواردات.
الصدمة الكبرى: جائحة كورونا (2020 – 2021)
في عام 2020، ضربت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي بلا رحمة، وكانت مصر من الدول المتضررة، خاصة مع توقف السياحة، وتراجع إيرادات قناة السويس مؤقتًا، وخروج ما يزيد عن 20 مليار دولار من الاستثمارات الساخنة في غضون أسابيع.
وتسبب ذلك في انخفاض صافي الاحتياطي النقدي من 45 مليار دولار إلى حوالي 36 مليار دولار، ورغم شدة الأزمة، تمكنت مصر من الصمود دون فرض قيود على النقد الأجنبي، مستفيدة من مرونة السياسات النقدية، والدعم الدولي من مؤسسات التمويل مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ما بعد الجائحة.. الحرب الروسية وأزمة التضخم العالمية (2022 – 2024)
لم يكد العالم يلتقط أنفاسه من الجائحة، حتى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، لتشعل أزمة غذاء وطاقة عالمية ضربت الاقتصادات الناشئة بشدة، خاصة الدول المستوردة مثل مصر.
ارتفعت فاتورة الواردات، خاصة القمح والوقود، وواجه الجنيه ضغوطًا شديدة أمام الدولار، ومع ذلك، حرص البنك المركزي على الحفاظ على مستوى آمن من الاحتياطي، مدعومًا باتفاقيات تمويل خليجية، وصفقات استثمار مباشر من الإمارات والسعودية وقطر، في أصول استراتيجية، من بينها موانئ ومناطق لوجستية.
ورغم الأوضاع العالمية الصعبة، استقر الاحتياطي في هذه الفترة حول مستويات 33 – 35 مليار دولار، دون هبوط حاد، وهو ما اعتبره الخبراء مؤشرًا على قدرة الدولة على إدارة الأزمة بفعالية.
مرحلة التعافي والتوسع (2024 – 2025): الاحتياطي يعود للصعود
مع استقرار الأوضاع العالمية تدريجيًا، وتحقيق تقدم في برنامج الطروحات الحكومية، وعودة ثقة المستثمرين الأجانب، بدأت مصر مرحلة جديدة من التعافي.
وبحسب بيانات البنك المركزي المصري، بلغ الاحتياطي النقدي نحو 46 مليار دولار في يونيو 2025، متجاوزًا مستويات ما قبل كورونا، ومؤكدًا نجاح الدولة في بناء منظومة نقدية مرنة وقادرة على امتصاص الصدمات.
وتُعزى هذه الزيادة إلى عدة عوامل، أبرزها، التوسع في الصادرات غير البترولية، استمرار تحويلات المصريين بالخارج والتي تجاوزت 30 مليار دولار سنويًا، توقيع اتفاقيات تمويلية جديدة مع صندوق النقد، تحسن الإيرادات السياحية، وزيادة الاستثمارات الخليجية المباشرة ضمن سياسة الدولة لفتح المجال أمام القطاع الخاص.
أهمية الاحتياطي النقدي في الاقتصاد المصري
يُعد صافي الاحتياطي النقدي أحد أهم المؤشرات التي يراقبها المستثمرون والمؤسسات الدولية، كونه يمثل قدرة الدولة على سداد التزاماتها من الديون الخارجية، وتغطية الواردات، وضبط أسعار الصرف، خاصة في أوقات الأزمات.
وقد وضعت مصر على مدار السنوات الأخيرة سياسة واضحة لزيادة وتنويع مصادر النقد الأجنبي، وعدم الاعتماد فقط على قطاع واحد، وهو ما ساعدها على مواجهة أزمات متعاقبة دون انهيار مالي.